فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن الكلبي قال: كان ساعة من نهار، أي أنها لم يدم العمل بها طويلًا إن كان الأمر مرادًا به الوجوب وإلا فإن ندب ذلك لم ينقطع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لتكون نفس المؤمن أزكى عند ملاقاة النبي مثل استحباب تجديد الوضوء لكل صلاة.
وتضافرت كلمات المتقدمين على أن حكم الأمر في قوله: {فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} قد نسخه قوله: {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم} [المجادلة: 13] الآية.
وهذا مؤذن بأن الأمر فيها للوجوب.
وفي تفسير القرطبي وأحكام ابن الفرس حكاية أقوال في سبب نزول هذه الآية تحوم حول كون هذه الصدقة شرعت لصرف أصناف من الناس عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا قد ألحَفُوا في مناجاته دون داع يدعوهم فلا ينثلج لها صدر العالم لضعفها سندًا ومعنى، ومنافاتها مقصد الشريعة.
وأقرب ما روي عن خبر تقرير هذه الصدقة ما في (جامع الترمذي) عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب قال: «لما نزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى دينارًا؟ قلت: لا يطيقونه، قال فنصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه. قال: فكم؟ قلت: شعيرة».
قال الترمذي: أي وزن شعيرة من ذهب.
قال: إنك لزهيد فنزلت: {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} [المجادلة: 13] الآية.
قال: (فبي خفف الله عن هذه الأمة).
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه. اهـ.
قلت: علي بن علقمة الأنماري قال البخاري: في حديثه نظر، ووثقه ابن حبان.
وقال ابن الفرس: صححوا عن علي أنه قال: (ما عمل بها أحد غيري).
وساق حديثا.
ومحمل قول علي (فبي خفف الله عن هذه الأمة)، أنه أراد التخفيف في مقدار الصدقة من دينار إلى زنة شعيرة من ذهب وهي جزء من اثنين وسبعين جزءًا من أجزاء الدينار.
وفعل {ناجيتم} مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] الآية.
وقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98].
والقرينة قوله: {فقدموا بين يدي نجواكم}.
والجمهور على أن الأمر في قوله: {فقدموا} للوجوب، واختاره الفخر ورجحه بأنه الأصل في صيغة الأمر، وبقوله: {فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم} فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول الوجوب.
ويناسب أن يكون هذا هو قول من قال: إن هذه الصدقة نسخت بفرض الزكاة، وهو عن ابن عباس.
وقال فريق: الأمر للندب وهو يناسب قول من قال: إن فرض الزكاة كان سابقًا على نزول هذه الآية فإن شرع الزكاة أبطَل كلَّ حقّ كان واجبًا في المال.
و {بين يدي نجواكم} معناه: قبل نجواكم بقليل، وهي استعارة تمثيلية جرت مجرى المثل للقرب من الشيء قبيل الوصول إليه.
شبهت هيئة قرب الشيء من آخر بهيئة وصول الشخص بين يدي من يرد هو عليه تشبيه معقول بمحسوس.
ويستعمل في قرب الزمان بتشبيه الزمان بالمكان كما هنا وهو كقوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} وقد تقدم في سورة [البقرة: 255].
والإِشارة بـ:{ذلك خير لكم} إلى التقديم المفهوم من (قدموا) على طريقة قوله: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8].
وقوله: {ذلك خير لكم وأطهر} تعريف بحكمة الأمر بالصدقة قبل نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم ليرغب فيها الراغبون.
و {خير} يجوز أن يكون اسم تفضيل، أصله: أَخْير وهو المزاوج لقوله: {وأطهر} أي ذلك أشد خيرية لكم من أن تناجوا الرسول صلى الله عليه وسلم بدون تقديم صدقة، وإن كان في كلّ خير.
كقوله: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271].
ويجوز أن يكون اسمًا على وزن فَعْل وهو مقابل الشَّر، أي تقديم الصدقة قبل النجوى فيه خير لكم وهو تحصيل رضا الله تعالى في حين إقبالهم على رسوله صلى الله عليه وسلم فيحصل من الانتفاع بالمناجاة ما لا يحصل مثله بدون تقديم الصدقة.
وأما {أطهر} فهو اسم تفضيل لا محالة، أي أطْهر لكم بمعنى: أشد طهرًا، والطهر هنا معنوي، وهو طهر النفس وزكاؤها لأن المتصدق تتوجه إليه أنوار ربانية من رضي الله عنه فتكون نفسه زكية كما قال تعالى: {تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103].
ومنه سميت الصدقة زكاة.
وصفة هذه الصدقة أنها كانت تعطى للفقير حين يعمد المسلم إلى الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليناجيه.
وعذَر الله العاجزين عن تقديم الصدقة بقوله: {فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم} أي فإن لم تجدوا ما تتصدقون به قبل النجوى غفر الله لكم المغفرةَ التي كانت تحصل لكم لو تصدقتم لأن من نوى أن يفعل الخير لو قدر عليه كان له أجر على نيته.
وأما استفادة أن غير الواجد لا حرج عليه في النجوى بدون صدقة فحاصلة بدلالة الفحوى لأنه لا يترك مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن إرادة مناجاته الرسول صلى الله عليه وسلم ليست عبثًا بل لتحصيل علم من أمور الدين.
وأما قوله: {رحيم} فهو في مقابلة ما فات غير الواجد ما يتصدق به من تزكية النفس إشعارًا له بأن رحمة الله تنفعه.
واتفق العلماء على أن حكم هذه الآية منسوخ.
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ}
نزلت هذه الآية عقب التي قبلها: والمشهور عند جمع من سلف المفسرين أنها نزلت بعد عشرة أيام من التي قبلها.
وذلك أن بعض المسلمين القادرين على تقديم الصدقة قبل النجوى شق عليهم ذلك فأمسكوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط الله وجوب هذه الصدقة، وقد قيل: لم يعمل بهذه الآية غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولعل غيره لم يحتج إلى نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم واقتصد مما كان يناجيه لأدنى موجب.
فالخطاب لطائفة من المؤمنين قادرين على تقديم الصدقة قبل المناجاة وشقّ عليهم ذلك أو ثقل عليهم.
والإِشفاق توقع حصول مالا يبتغيه ومفعول {أأشفقتم} هو {أن تقدموا} أي من أن تقدموا، أي أأشفقتم عاقبة ذلك وهو الفقر.
قال المفسرون على أن هذه الآية ناسخة للتي قبلها فسقط وجوب تقديم الصدقة لمن يريد مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وروي ذلك عن ابن عباس واستبعده ابن عطية.
والاستفهام مستعمل في اللوم على تجهم تلك الصدقة مع ما فيها من فوائد لنفع الفقراء.
ثم تجاوز الله عنهم رحمة بهم بقوله تعالى: {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} الآية.
وقد علم من الاستفهام التوبيخي أي بعضًا لم يفعل ذلك.
و(إذ) ظرفية مفيدة للتعليل، أي فحين لم تفعلوا فأقيموا الصلاة.
وفاء {فإذ لم تفعلوا} لتفريع ما بعدها على الاستفهام التوبيخي.
وجملة {وتاب الله عليكم} معترضة، والواو اعتراضية.
وما تتعلق به (إذ) محذوف دل عليه قوله: {وتاب الله عليكم} تقديره: خففنا عنكم وأعفيناكم من أن تقدموا صدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وفاء {فأقيموا الصلاة} عاطفة على الكلام المقدر وحافظوا على التكاليف الأخرى وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله.
أي فذلك لا تسامح فيه، قيل لهم ذلك لئلا يحسبوا أنهم كلما ثقل عليهم فعل مما كلفوا به يعفون منه.
وإذ قد كانت الزكاة المفروضة سابقة على الأمر بصدقة النجوى على الأصح كان فعل {آتوا} مستعملًا في طلب الدوام مثل فعل {فأقيموا}.
واعلم أنه يكثر وقوع الفاء بعد (إذْ) ومتعلَّقها كقوله تعالى: {وإذ لم يهتدوا به فيسقولون هذا إفك قديم} في سورة [الأحقاف: 11].
{و إذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف} في سورة [الكهف: 16].
وجملة {والله خبير بما تعملون} تذييل لجملة {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وهو كناية عن التحذير من التفريط في طاعة الله ورسوله. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا}
قرأ جمهور الناس: {تفسحوا}، وقرأ الحسن وداود بن أبي هند: {تفاسحوا}، وقرأ جمهور القراء: {في المجلس}، وقرأ عاصم وحده وقتادة وعيسى: {في المجالس}. واختلف الناس في سبب الآية والمقصود بها، فقال ابن عباس ومجاهد والحسن: نزلت في مقاعد الحرب والقتال.
وقال زيد بن أسلم وقتادة: نزلت بسبب تضايق الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم كانوا يتنافسون في القرب منه وسماع كلامه والنظر إليه، فيأتي الرجل الذي له الحق والسن والقدم في الإسلام فلا يجد مكانًا، فنزلت بسبب ذلك. وقال مقاتل: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا ليجلس أشياخ من أهل بدر ونحو ذلك فنزلت الآية، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس فيه الرجل ولكن تفسحوا يفسح الله لكم»، وقال بعض الناس: إنما الآية مخصوصة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في سائر المجالس، ويدل على ذلك قراءة من قرأ: {في المجلس}، ومن قرأ {في المجالس} فذلك مراده أيضًا لأن لكل أحد مجلسًا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وموضعه فتجمع لذلك، وقال جمهور أهل العلم: السبب مجلس النبي عليه السلام، والحكم في سائر المجالس التي هي للطاعات، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحبكم إلى الله ألينكم مناكب في الصلاة وركبًا في المجالس»، وهذا قول مالك رحمه الله وقال: ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ: {في المجالس}، ومن قرأ: {في المجلس} فذلك على هذا التأويل اسم جنس فالسنة المندوب إليها هي التفسح والقيام منهي عنه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث نهى أن يقوم الرجل فيجلس الآخر مكانه، فأما القيام إجلالًا فجائز بالحديث قوله عليه السلام حين أقبل سعد بن معاذ: «قوموا إلى سيدكم»، وواجب على المعظم ألا يحب ذلك ويأخذ الناس به لقوله عليه السلام: «من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار».
وقوله تعالى: {يفسح الله لكم} معناه: في رحمته وجنته، وقوله تعالى: {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} معناه: إذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا فافعلوا ذلك، ومنه نشوز العظام أي نباتها، والنشز من الأرض المرتفع، واختلف الناس في هذا النشوز الذي أمروا بامتثاله إذا دعوا إليه. فقال الحسن وقتادة والضحاك معناه: إذا دعوا إلى قتال أو طاعة أو صلاة ونحوه، وقال آخرون معناه: إذا دعوا إلى القيام عن النبي عليه السلام لأنه كان أحيانًا يحب الانفراد في آمر الإسلام فربما جلس قوم وأراد كل واحد أن يكون آخر الناس عهدًا بالنبي عليه السلام، فنزلت الآية آمرة بالقيام عنه متى فهم ذلك بقول أو فعل، وقال آخرون معناه: {انشزوا} في المجلس بمعنى التفسح لأن الذي يريد التوسعة يرتفع إلى فوق في الهواء فإذا فعل ذلك جملة اتسع الموضع، فيجيء {انشزوا} في غرض واحد مع قوله: {تفسحوا}، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: {انشُزوا} برفع الشين وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والأعرج.